من المعروف والمرتقب ان لغة الصواريخ والمدافع والعمليات العسكرية ستكتب لها النهاية في آخر المطاف، ويبقى الموضوع رهن التوقيت الذي، وفق الحراك الحاصل، يبدو انّه ليس ببعيد لانتاج تسوية صغيرة تمهّد الطريق لتسوية كبيرة تتخطى النطاق الجغرافي لغزّة. وعلى غرار كل تفاهم او تسوية او اتفاق بين طرفين متحاربين، هناك من سيدفع ثمناً اكبر من سواه، وها هي منظمة "الاونروا" (غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) تجد نفسها القربان الاول المقدّم على مذبح التسوية المنتظرة. اخذ الاسرائيليون على هذه المنظمة الامميّة ضلوع عدد من موظّفيها بعملية "طوفان الاقصى"، ورفعوا الصوت للقضاء عليها، وبدأت الحملات تعطي ثمارها بقرار عدد من الدول الكبرى والغربيّة قطع التمويل عنها لاعتبارها منظمة داعمة لـ"الارهاب".
ما استغله الاسرائيليّون، يعتبر نقطة في بحر ما يمكن ان يستغله العرب –لو يعرفون بالفعل كيفيّة خوض مثل هذه المواجهات الدبلوماسيّة والسّياسية- والفارق الاهم هو انهم (اي الاسرائيليين) غالباً ما يصلون الى هدفهم، فيما العرب يكثرون من الاهداف لدرجة... اضاعة الطريق نحو خطّ النهاية. وليس خفياً على احد، انه على الرغم من وجود ملاحظات عديدة على عمل هذه المنظمة الدوليّة التي قامت منذ العام 1949، لا يمكن نكران دورها في مساعدة اللاجئين الفلسطينيين في مختلف انحاء العالم، وهي انشئت اساساً للتعويض (الى حد ما) على ما ارتكبه العالم بحق الفلسطينيين بسبب اسرائيل بعد "النكبة". ورمزيّة "الاونروا" ترتبط بقضية اللاجئين الفلسطينين في العالم، وغياب هذه المنظمة الدوليّة يعني بمعنى اوضح انتصار التطرّف الاسرائيلي والغربي في "تصفية" القضيّة الفلسطينيّة ورميها على الدول التي تستقبلهم الّتي لن تجد من يغيثها. وتعتبر هذه المحاولة الاكثر خطورة ضمن محاولات القضاء على "الاونروا" بعد قرارات عدّة تمّ اتّخاذها سابقاً ومنها على سبيل المثال لا الحصر، قرار الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب قطع التمويل عنها، قبل ان يعود الرئيس الحالي جو بايدن الى التمويل حتى الامس القريب، كما انّ القضاء عليها يعطي صك براءة كامل للاسرائيليين الذين استهدفوا مقرّاتها وموظّفيها في غزّة، ويعملون على تأكيد عدم وصول ايّ مساعدة للغزاويين في هذا الظرف الحرج.
يرى البعض ان هذه الخطوة الخطيرة، انما تأتي كرد سريع على قرار محكمة العدل الدوليّة الزام اسرائيل تأمين المساعدات للفلسطينيين في غزّة، والتلميح بقبول ان ما تقوم به الآلة العسكرية الاسرائيلية هو حرب ابادة وليس دفاعاً عن النفس. اضافة الى ذلك، فإن التخلص من عبء فلسطينيي الشتات، يعتبر نقطة بالغة الاهميّة بالنسبة الى الاسرائيليين الذين سيستكملون التطبيع مع الدول العربيّة قريباً، فيعمدون عندها الى ترتيب امورهم مع ما تبقى من الفلسطينيين في البقع المتواجدين فيها في الضفّة وغزّة، ويرتاحون من العبء الثقيل الذي يشكله "حقّ العودة" المفترض ان يكون مدعوماً من كل دول العالم، ولكن الاحداث والمسار التاريخي اثبتا انه لم يكن سوى حبرا على ورق غايته اسكات الفلسطينيين والشعوب العربية، واذ بهذه الورقة التي كانت بمثابة ضمانة دولية، تتحول الى رماد تتناثر اشلاؤه في رياح الحرب. ويكفي استذكار ما قاله رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو عام 2018، لمعرفة ما يبيّته الاسرائيليون: "تعمل الأونروا على إدامة سرديّة ما يسمّى بحقّ العودة، الذي هدفه القضاء على إسرائيل. لهذه الأسباب، يجب إغلاقها".
في حين فشل نتنياهو في تحقيق الاهداف التي اعلن عنها مع بداية الحرب على غزّة، فإنه قد ينجح في تحقيق هدف وضعه نصب عينيه منذ زمن، مع العديد من المتطرّفين الاسرائيليين، وهو القضاء على "الاونروا" وحق العودة، مع العلم ان مفعول هذه الخطوة سيكون مثالياً للمسؤولين الاسرائيليين حين يستكملون التطبيع مع الدول العربية وفي مقدمها السعودية، وعندها تنتقل المشكلة الفعلية الى الدول المستضيفة للاجئين الفلسطينيين.